في
لحظة جنونٍ قررَتْ صديقتي أن تنظمَ أبياتًا تصف فيها مشهدا عابرًا لا يتعدى الدقيقةَ
الواحدة، فاستفتحت أبياتها بنداءٍ بائسٍ قائلة: "ألا يا موليًا ظهرًا إلينا!"،
هذا الشطر الذي بات بعد ذلك كلعنةٍ تلتصق بظهرها، ويبدو أن من الصعب جدًّا الشفاء منها
في الأيام القليلة القادمة، يتكرر المشهد كثيرًا وبصورة مخيفة ومضحكة في آنٍ معا، وفي
كل مرة أصرخ بوجهها: هي لعنة البيت ما تزال تلاحقنا! فتبادلني ببتسامةٍ باهتة تحمل
في طيّاتها أن"صه يا بليدة"!
آمنت
صديقتي أخيرا بلعنة أبياتها، حينما تراءت لنا أن لعنةٌ أخرى تنبثق من البيت الأخير،
وكأن النداءات التي قامت بصياغتها تسير أمامها وتسخر من محاولاتها العاثرة للظفر باستجابةٍ
ما، أو حتى إيماءة بارِدة.
وقفتُ
في يومٍ منَ الأيام أمام أحد المكاتب، وقررتُ أن أخلِّد وقفتي بشيء من الشعر فقلت بسخرية
البائس: "قف بالمكاتبِ واسألن..." -أضع نصف شطرٍ وأتحفظ بالباقي لأسبابٍ
وجدانيّة- ولكن من كان يعلم أني سأقف بعد ذلك البيت طويلا جدا أمام المكتب؟ وأن أياما
أخرى ستأتي وأنا أمر بجانبه بخوف أزلي!؟ وأنّ قلبي كاد أن يقف مرارًا عند عتباته؟ وأن
الكثير الكثير من الغباء سيحصل وأنا بداخله؟
صرنا
نقتنع أكثر بعد كل تجربة أن ما نسجناه بمخيلة الفكاهة استحال إلى مواقف حقيقية تعبث
بمشاعرنا وتتلاعب بأعصابنا.
فقررنا
أن ننأى عن النظم قليلا، وصرنا نترنّم بقصيدة لأبي فراس الحمداني مطلعها: كيف السبيل
إلى طيفٍ يزاوره :: والنوم في جملة الأحباب هاجره
وقد
علقت بأنفسنا استفهامات كثيرة تبتدئ بكيف، ولا تنتهي بلماذا!
لم
يقنعنا الطيف، وذهبت عنا لذة الوسن.. وخذلنا الصبر ورافقت ليالينا الدموعُ الحارة،
درسنا عروض الخليل، ولدينا مخزون لا بأس به من الشعر، بأيدينا مفاتيح البلاغة، نحتسي
علوم النحو كشراب عذب، وتلاحقنا القصائد ككل شيء مخيف يتربص بحياتنا واستقرارها.